فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السعدي:

{وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ} بعمل المعاصي {بَعْدَ إِصْلاحِهَا} بالطاعات، فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق، والأعمال، والأرزاق، وأحوال الدنيا والآخرة.
{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، طمعا في قبولها، وخوفا من ردها، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه، ونزل نفسه فوق منزلته، أو دعاء من هو غافل لاهٍ.
وحاصل ما ذكر اللّه من آداب الدعاء: الإخلاص فيه للّه وحده، لأن ذلك يتضمنه الخفية، وإخفاؤه وإسراره، وأن يكون القلب خائفا طامعا لا غافلا ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة، وهذا من إحسان الدعاء، فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ولهذا قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في عبادة اللّه، المحسنين إلى عباد اللّه، فكلما كان العبد أكثر إحسانا، كان أقرب إلى رحمة ربه، وكان ربه قريبا منه برحمته، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}
الأرض هي مكان الخليفة وهو الإِنسان، وفيها الأسباب الأصيلة لاستبقاء الحياة والسماء والأرض والشمس والهواء كلٌ مسخر لك. ولا تحتاج إلى تكليف فيه، فلا أنت تقول: يا شمس أشرقي أو يا هواء هب فكل ذلك مسخر لك. وأنت مطالب ألا تفسد فيما لك فيه اختيار؛ لأنك لا تستطيع أن تفسد قوانين الكون العليا، لا تستطيع أن تغير مسار الشمس ولا مسار القمر ولا مسار الريح، وأنت لن تستطيع إصلاح ما لا يمكن أن تقترب من إفساده، لأن أمره ليس بيدك لأنه لا اختيار لك فيه. وإنما يأتي الإِفساد من ملكات الاختيار الموجودة فيك، ولم يتركنا الله أحرارًا فيها، بل حددها بمنهج يحمي حركة الحياة ب افعل ولا تفعل، فإذا كان سبحانه قد أنزل قرآنًا، والقرآن فيه منهج يحمي اختيارك إذن فقد أعطاك عناصر الإِصلاح ولذلك يقول لك: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا...} [الأعراف: 56]
وهنا يعود الحق مرة أخرى للحديث عن الدعاء، فأولًا جاء بالأمر أن يكون الدعاء تضرعًا وخفية، وهنا يوضح الحق سبيلًا ثانيا للدعاء: {وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا}.
خوفًا من صفات جبروته وقهره، وطمعا في صفات غفرانه ورحمته؛ لأن لله صفات جمال وصفات جلال، وادعوه خوفًا من متعلقات صفات الجلال، وطمعًا في متعلقات صفات الجمال. أو خوفًا من أن تُرد وطمعًا فيما أنت ترجو. {... وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56]
إذن من الذي يحدد قرب الرحمة منه؟ إنه الإِنسان فإذا أحسن قربت منه الرحمة والزمام في يد الإِنسان؛ لأن الله لا يفتئت ولا يستبد بأحد. فإن كنت تريد أن تقرب منك رحمة الله فعليك بالإِحسان. {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين}.
ولذلك قلنا إن الحق سبحانه وتعالى يقول: «لا أمل حتى تملّوا». من حديث قدسي.
وأنت تدخل بيوت الله تصلى في أي وقت، وتقف في أي مكان لتؤدي الصلاة، إذن فاستحضارك أمام ربك في يدك أنت، وسبحانه حدد لك خمسة أوقات، ولكن بقية الأوقات كلها في يدك، وتستطيع أن تقف بين يدي الله في أي لحظة. وسبحانه يقول: «ومن جاءني يمشي أتيته هرولة». من حديث قدسي.
وهو جل وعلا يوضح لك: استرح أنت وسآتي لك أنا؛ لأن الجري قد يتعبك لكني لا يعتريني تعب ولا عي ولا عجز. وكأن الحق لا يطلب من العبد إلا أن يملك شعورًا بأنه يريد لقاء ربه. إذن فالمسألة كلها في يدك، ويقول سبحانه: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه». من حديث قدسي.
وهكذا يؤكد لك سبحانه أن رحمته في يدك أنت وقد أعطاها لك، وعندما تسلسلها تجدها تفضلًا من الله، ولكن في يدك أنت. {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين}.
ونعلم أن فيه صفات لله وفيه ذات، فالذات الله وهو واهب الوجود، وله كل صفات الكمال وكل صفة لها متعلق؛ الرحمة لها متعلق والبعث له متعلق فمن أسمائه سبحانه الباعث؛ وإياك أن تغيب عن الذات، اجعل نفسك مسبحًا لذاته العلية دائمًا. وقد تقول: يا رب أريد أن ترحمني في كذا، وقد لا ينفذ لك ما طلبت، لكن ذلك لا يجعلك تبتعد عن التسبيح للذات، لأن عدم تحقيق ما طلبت هو في مصلحتك وخير لك.
وقد وقف العلماء عند كلمة {قريب} هذه، وتساءل بعضهم عن سرّ عدم مجيء تاء التأنيث بعد لفظ الجلالة؟ ونعلم أن القرآن قد نزل بلغة العرب، وعند العرب ألفاظ يستوي فيها التذكير والتأنيث، وما يقال للمذكر مثلما يقال للمؤنث، فنقول: رجل صبور، وامرأة صبور، ولا نقول: صبورة ونقول: رجل معطار أي يكثر استخدام العطر، وامرأة معطار أي تكثر استخدام العطر. ونقول: قريب مثلما نقول: قتيل بمعنى مقتول. فيقال: رجل قتيل وامرأة قتيل، ولا يقال: قتيلة إلا إذا لم يذكر معها كلمة امرأة أو ما يدل على التأنيث، لأن القتيل للذكر وللأنثى.
هذه هي ألفاظ صحيح اللغة. وقد صنعت اللغة ذلك بأسانيد، فأنت حين نقول: رجل صبور أو امرأة صبور فالصبر يقتضي الجلد والعزم والشدة؛ لذلك لا نقول: امرأة صبور بل نأتي بالوصف المناسب للجَلَد والشدة. وإياك أن تضعفها بحكاية التأنيث، وكذلك رجل معطار وامرأة معطار، والرجل المعطار هو من تعرفه الناس من نفاذ رائحة عطره، والمرأة مبنية على الستر. فإن تعطرت فهي قد تشبهت بالرجل ويقال لها: امرأة معطار، وحين ننظر إلى كلمة قريب فهي من صيغة فعيل التي يستوي فيها المذكر والمؤنث؛ بدليل أن الله قال: {... وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]
والملائكة لفظها لفظ مؤنث، ولم يقل الحق ظهيرة، لأن ظهير يعني مُعين، والمعونة تتطلب القوة والعزم والمدد؛ لذلك جاء لها باللفظ المناسب الذي يدل على القوة وهو ظهير. وكذلك قوله الحق: {... إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56]
و{قريب} بوزن فعيل بمعنى مفعول، ولعل بعض الناس يفهم أن {قريب} بمعنى فاعل أي قارب. مثل رحيم وراحم. أي أن رحمة الله هي التي تُقرب من المحسنين، والأمر ليس كذلك، فإن الرحمة هي المقروبة، والإحسان هو الذي يقرب إليها فيكون فعيل هنا بمعنى مفعول الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث، أن يكون جاءت كذلك على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة لموصوف محذوف أي شيء قريب، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو أن الرحمة مصدر، وحق المصدر التذكير. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَعْدَ آيَاتِ الْجَزَاءِ وَالْمَعَادِ، سَبَبَ هَلَاكِ الْكَافِرِينَ وَخُسْرَانِ أَنْفُسِهِمْ بِالشِّرْكِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَعِبَادَةِ مَنِ اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ، دُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ أَوِ ابْتَدَعَهُ لَهُمْ مَنْ قَبْلَهُمْ، ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِخَمْسِ آيَاتٍ جَامِعَةٍ لِجُمْلَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الدِّينِ بِإِيجَازٍ بَلِيغٍ ابْتَدَأَهَا بِآيَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ الْهَادِيَةِ إِلَى حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ بُرْهَانًا عَلَى أَصْلِ الدِّينِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الرَّبُّ: هُوَ السَّيِّدُ وَالْمَالِكُ وَالْمُدَبِّرُ وَالْمُرَبِّي، وَالْإِلَهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ، أَيِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ عِنْدَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بِكَسْبِهِ وَمُسَاعَدَةِ الْأَسْبَابِ لَهُ، فَيَدْعُوهُ لِكَشْفِ الضُّرِّ أَوْ جَلْبِ النَّفْعِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يُرْجَى أَنْ تُرْضِيَهُ، وَبِالنَّذْرِ لَهُ وَالذَّبْحِ بِاسْمِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ، سَوَاءً كَانَ الرَّجَاءُ فِيهِ خَاصًّا بِهِ أَوْ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْبُودٍ آخَرَ هُوَ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ. وَأَمَّا اسْمُ الْجَلَالَةِ الْأَعْظَمِ اللهُ فَهُوَ اسْمٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِقِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، الَّذِي يَنْفِي الْمُوَحِّدُونَ الْحُنَفَاءُ رُبُوبِيَّةَ غَيْرِهِ وَأُلُوهِيَّةَ سِوَاهُ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُ أَكْبَرُ الْأَرْبَابِ أَوْ رَئِيسُهُمْ، وَأَعْظَمُ الْآلِهَةِ أَوْ مَرْجِعُهُمُ الَّذِي يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ، وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَمْثَالُهُمْ يَنْفُونَ وُجُودَ رَبٍّ سِوَاهُ وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ آلِهَةً تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ.
وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ يُطْلَقَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ مَخْلُوقٍ، أَوْ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُ النَّاسِ بِالْعَالَمِ الْعِلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ- وَإِنْ كَانَ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فِيهِمَا مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ- وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ خَالِقَ جُمْلَةِ الْعَالَمِ وَاحِدٌ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَرْبَابًا كَانُوا يُقَيِّدُونَ رُبُوبِيَّتَهُمْ بِأُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ وُكِّلَ إِلَيْهِمْ تَدْبِيرُهَا، وَيُسَمُّونَهُمْ بِأَسْمَاءٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (473، 474 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَيَخُصُّونَ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ بَاسِمٍ كَاسْمِ الْجَلَالَةِ اللهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا الثَّنَوِيَّةَ الَّذِينَ قَالُوا بِرَبَّيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ أَحَدُهُمَا: خَالِقُ النُّورِ وَفَاعِلُ الْخَيْرِ، وَالثَّانِي: خَالِقُ الظُّلْمَةِ وَمَصْدَرُ الشَّرِّ.
فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً: إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِمَا وَحْدَهُ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، فَلَا يَكُونُ لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ تُطْلَقُ السَّمَاوَاتُ عَلَى مَا دُونَ الْعَرْشِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَلاسيما إِذَا وُصِفَتْ بِالسَّبْعِ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ فَهِيَ مِنْ أَيَّامِ اللهِ الَّتِي يَتَحَدَّدُ الْيَوْمُ مِنْهَا بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ يَكُونُ فِيهِ، فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي يَمْتَازُ بِمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ كَامْتِيَازِ أَيَّامِنَا بِمَا يَحُدُّهَا مِنَ النُّورِ وَالظَّلَامِ، وَأَيَّامِ الْعَرَبِ بِمَا كَانَ يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْحَرْبِ وَالْخِصَامِ، وَأَيَّامِ اللهِ الَّتِي أَمَرَ مُوسَى أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ بِهَا هِيَ أَزْمِنَةُ أَنْوَاعِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [22: 47] وَوَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [70: 4] وَلَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ مِنْ أَيَّامِ أَرْضِنَا، الَّتِي يُحَدُّ لَيْلُ الْيَوْمِ وَنَهَارُهُ مِنْهَا بِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً مِنَ السَّاعَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَنَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ إِنَّمَا وُجِدَتْ بَعْدَ خَلْقِ هَذِهِ الْأَرْضِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُ خَلْقِهَا فِي أَيَّامٍ مِنْهَا. وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى خَلْقَهَا وَخَلْقَ السَّمَاءِ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ- فُصِّلَتْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَالَ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونِ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (41: 9- 12).
وَوَصَفَ أَصْلَ تَكْوِينِهِمَا وَحَالَ مَادَّتِهِمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [21: 30] فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَسَائِلُ:
(1) أَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ كَانَتْ دُخَانًا أَيْ مِثْلَ الدُّخَانِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ، وَفَسَّرَ الْجَلَالُ الدُّخَانَ بِالْبُخَارِ الْمُرْتَفِعِ، وَذَهَبَ الْبَيْضَاوِيُّ إِلَى أَنَّهُ جَوْهَرٌ ظَلْمَانِيٌّ قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ مَادَّتَهَا أَوِ الْأَجْزَاءَ الَّتِي رُكِّبَتْ مِنْهَا.
(2) أَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ الدُّخَانِيَّةَ وَاحِدَةٌ ثُمَّ فَتَقَ اللهُ رَتْقَهَا أَيْ فَصَلَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ فَخَلَقَ مِنْهَا هَذِهِ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ السَّبْعَ الْعُلَا.
(3) أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ كَانَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَكُونُ الْيَابِسَةُ وَالْجِبَالُ الرَّوَاسِي فِيهِمَا وَمَصَادِرُ الْقُوتِ وَهِيَ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
(4) أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ خُلِقَتْ مِنَ الْمَاءِ.
فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ مِنْ أَيَّامِ خَلْقِ الْأَرْضِ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ كَالدُّخَانِ حِينَ فُتِقَتْ مِنْ رَتْقِ الْمَادَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ مُبَاشَرَةً أَوْ غَيْرَ مُبَاشَرَةٍ وَأَنَّ الْيَوْمَ الثَّانِي هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ مَائِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ بُخَارِيَّةً أَوْ دُخَانِيَّةً، وَإِنَّ الْيَوْمَ الثَّالِثَ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي تَكَوَّنَتْ فِيهِ الْيَابِسَةُ وَنَتَأَتْ مِنْهَا الرَّوَاسِي فَتَمَاسَكَتْ بِهَا، وَأَنَّ الْيَوْمَ الرَّابِعَ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ أَجْنَاسُ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَهِيَ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ. فَهَذِهِ أَزْمِنَةٌ لِأَطْوَارٍ مِنَ الْخَلْقِ قَدْ تَكُونُ مُتَدَاخِلَةً. وَأَمَّا السَّمَاءُ الْعَامَّةُ وَهِيَ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَقَدَ سَوَّى أَجْرَامَهَا مِنْ مَادَّتِهَا الدُّخَانِيَّةِ فِي يَوْمَيْنِ أَيْ زَمَنَيْنِ كَالزَّمَنَيْنِ اللَّذَيْنِ خُلِقَ فِيهِمَا جِرْمُ الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي مَوْضِعِهِ.